بقلم : خالد الدخيل
اتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم الجمعة الماضي خطوة متقدمة في اتجاه يمكن أن ينتهي بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران. وهي خطوة توقعها الجميع داخل أميركا وخارجها. الرجل كان واضحاً منذ الحملة الانتخابية الرئاسية العام الماضي. فهو يعتبر أن هذا الاتفاق الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. ثم أعاد تأكيد هذا الرأي في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) الماضي. في خطابه الأخير عاد مرة أخرى للموضوع. ما الذي قاله ترامب تحديداً؟ أولاً، عدّد انتهاكات إيران التقنية والسياسية للاتفاق. من هذه الانتهاكات محاولة إيران استغلال غموض بعض نصوص الاتفاق لزيادة كمية الماء الثقيل وعدد أجهزة الطرد المركزي عما يسمح به الاتفاق. ومن الانتهاكات السياسية دعم الحكومة الإيرانية التنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وحزب الله، وتدخلاتها في العراق وسورية بما يفاقم عدم الاستقرار في كل منهما. بناءً على ذلك، وهذا ثانياً، رفض التصديق الذي يتطلبه الكونغرس كل ثلاثة أشهر من الإدارة على مدى التزام إيران ببنود الاتفاق ومتطلباته. ثالثاً وضع الشرط التالي لالتزام إدارته بالاتفاق وعدم الإقدام على إلغائه. والشرط يقول بالنص إنه «في حال لم نتمكن من التوصل إلى حل بالعمل مع الكونغرس ومع حلفائنا، فإنه سيتم إلغاء الاتفاق».
قد يتساءل البعض: ما الذي يرمي إليه الرئيس من كل ذلك؟ يدعم هذا البعض تساؤله الاستنكاري بالقول إن ما يرمي إليه ترامب في نهاية المطاف ليس أقل من إلغاء الاتفاق واستبداله باتفاق آخر يحمل توقيع ترامب وليس توقيع الرئيس السابق باراك أوباما. ثم يضيف هؤلاء أن كل ما فعله ويفعله الرئيس الحالي منذ دخوله البيت الأبيض قبل تسعة أشهر فقط هو العمل على تدمير الإرث الذي تركه أوباما. من ذلك مثلاً الانسحاب من اتفاق باريس حول المناخ والانبعاثات الحرارية، ومراجعة اتفاقات التجارة مع كل من كندا والمكسيك، والعمل على إلغاء قانون الرعاية الصحية الذي يعتبر مع الاتفاق النووي مع إيران من أهم إنجازات إدارة أوباما. ربما أن هذا ما يفعله حقاً ترامب. ومع ذلك، فإن هذا النقد لا يرقى إلى أن يكون بذاته معياراً كافياً لتقويم موقف ترامب وإدارته من الاتفاق النووي، وبمعزل من مضمون هذا الموقف واعتباراته، وما يقوله تحديداً عن الاتفاق. وبالتالي فإن السؤال الأهم في هذه الحال هو: هل ما يقوله ترامب عن الاتفاق، وعن انتهاكات إيران له صحيح أم لا؟
أهم ما يلفت النظر في موقف المؤيدين للاتفاق كما هو ومن دون أي شروط أنهم يقصرون اهتمامهم على الجانب التقني له، وأنه حصراً المبرر الأهم من غيره لأهمية وفائدة الاتفاق. كل ما يهمهم هو أن إيران لن تتمكن من تصنيع سلاح نووي خلال فترة الاتفاق التي تمتد ما بين 10 و15 سنة. ما بعد ذلك، في عرفهم، يترك لحينه. وضع خطوطاً كثيرة لكلمة «لحينه». لا يرى المؤيدون أي اعتبار للبعد السياسي للاتفاق، وتأثيره في صلاحيته وفائدته، خصوصاً على المديين المتوسط والبعيد. كما يتجاهل هؤلاء الإطار السياسي الذي تم فيه الاتفاق، ولا يزال يعمل داخله، ويتأثر به سلباً وإيجاباً. على سبيل المثال، وقبل العودة للبعد السياسي، يتجاهلون أن الاتفاق يعترف في نهاية التحليل بإيران كدولة على مشارف أن تكون نووية، وأنه بانتهاء الزمن المحدد للاتفاق ليس هناك ما يمنع إيران من أن تعتبر تصنيع السلاح النووي حقاً مشروعاً لها بناء على نصوص الاتفاق نفسه وإطاره الزمني المحدد، وليس المفتوح. موقف المؤيدين من مثل هذه القضايا يتسم بالسفسطة السياسية والغموض الذي تعتبره القيادة الإيرانية من نوع الغموض البناء.
وبالعودة إلى البعد السياسي وما يرمي إليه ترامب يمكن القول إنه يريد تعديل الاتفاق وإعادة التفاوض عليه لسد الثغرات التي يعاني منها، خصوصاً الثغرات السياسية. لا يمكن لمن لديه حد أدنى من المعرفة ملاحظة أن أهم ما يتسم به الوضع في الشرق الأوسط منذ ست سنوات هو سيطرة حال الاضطراب السياسي، والحروب الأهلية في عدد من دوله، بما فيها دول كبيرة، وذلك في أعقاب الربيع العربي. في السياق ذاته لا يمكن في هذا الإطار أن تفوت أيَّ مراقب ملاحظة أمرين متلازمين: الأول أن إيران طرف رئيس في حال الاضطراب هذه، وأنها تعتبر انخراطها في هذا الوضع من أجل مصالحها الاستراتيجية. الأمر الثاني أن إيران جعلت من آلية الميليشيات، المناهضة لفكرة الدولة الوطنية، المحور المركزي لدورها في الانخراط في هذا الوضع المضطرب للمنطقة، وجعلت من الطائفية الأيديولوجيا الموجهة لهذا الدور. لماذا من المهم تسجيل هذه الملاحظة؟ لأن باراك أوباما لم يبدأ مفاوضاته الجادة مع الإيرانيين، والتي انتهت بالاتفاق، إلا بعد الربيع العربي، وبعد أن أصبحت إيران شريكاً للولايات المتحدة في احتلال العراق منذ عام ٢٠٠٣. ولأن أوباما على رغم كل ذلك ركز حصراً في مفاوضاته النووية على الجانب ال
تقني، متجنباً تماماً وبشكل متعمد وإصرار مسبق الإطار السياسي الإقليمي الذي تعمل داخله إيران وبقية دول المنطقة، وفي داخله أيضاً سيتم تفعيل الاتفاق النووي. رفض مثلاً فكرة ربط المفاوضات بالدور الإيراني في المنطقة، مهما كان هذا الدور. لم يعط كثير اهتمام بأن موقف إدارته هذا يعتبر ضوءاً أخضر من الدولة العظمى لإيران بالاستمرار في تداخلاتها، وفي نشر الميليشيات المسلحة وتمويلها في الدول العربية. الأنكى من ذلك، أن أوباما غض الطرف أثناء المفاوضات وبعدها عن استخدام إيران الأجواء والأراضي العراقية (وهي تحت الاحتلال الأميركي) لنقل الأسلحة والمقاتلين إلى سورية لدعم الرئيس السوري بشار الأسد. وعندما ظهر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عام ٢٠١٤، أي أثناء المفاوضات وقبل التوصل لاتفاق، تحالفت إدارة أوباما عملياً مع الميليشيات الإيرانية في العراق لمحاربة هذا التنظيم. كل ذلك كان يصب في مصلحة الدور الإيراني في المنطقة، وعلى حساب حلفاء واشنطن، أو من يعتبرهم أوباما كذلك. فوق ذلك، فإنه يصب في مصلحة إيران كطرف في الاتفاق النووي، خصوصاً عندما نعرف أن الاتفاق موقت لا تتجاوز صلاحيته أكثر من 15 سنة. من هذه الزاوية، يصبح من الواضح أن الاتفاق النووي كما أراده أوباما سمح ويسمح لإيران بأن تستخدمه، كما استخدمت المفاوضات غطاءً دولياً لدورها الإقليمي على حساب الدول العربية، بما فيها الدول الحليفة أو الشريكة للولايات المتحدة.
وما من تفسير لذلك إلا أن (١) الدول الغربية وأولاها أميركا بدأت تشعر بتراجع دورها، وأن السيطرة على الانتشار النووي تتضاءل مع الوقت، (٢) أن ما يهم هذه الدول هو محاولة السيطرة على هذا الوضع بأي ثمن، (٣) أن قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان ليست أولوية بالنسبة إلى أميركا وجميع أطرف الاتفاق. والدليل تخلي أوباما، وبعده ترامب، تماماً عن الشعب السوري، وتركه لمصيره أمام الروس والإيرانيين والميليشيات. بل لا يستبعد أن تراجع أوباما عن خطه الأحمر في صيف ٢٠١٣ كان من بين مبرراته عدم الاصطدام مع الإيرانيين. هناك من يرى في واشنطن أن الاتفاق بصيغته الحالية يفاقم من تراجع الدور الأميركي، وصدقيته ليس فقط في الشرق الأوسط بل في مناطق أخرى كأوروبا وشرق آسيا. من حق هذا الفريق أن يعمل على تصحيح الثغرات الخطرة في الاتفاق، أو الانسحاب منه، كما كان من حق أوباما فرض الاتفاق. هناك درس واضح للدول العربية، خصوصاً السعودية ودول مجلس التعاون، من ذلك. ضعف حضورها في توازنات القوة في المنطقة، وتحديداً غيابها عن المفاوضات النووية مع إيران، ساعد كثيراً في تفاعل هذه اللعبة السياسية وما وصلت إليه، كما سمح لأوباما بأن يفرض خياراته في الاتفاق على الجميع. هل يتمكن ترامب من فرض خيارات مختلفة. الصراع لا يزال في بداياته.