بقلم - عمار علي حسن
شاركت فى ندوة حول «التعليم والتطرف والإرهاب» بمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، بدعوة من مديره العام الأستاذ الدكتور جمال سند السويدى، طرحت فيها عددا من التساؤلات والأفكار ودعوت الجميع إلى التفكير فيها، وهى:
1 ـ التعليم مهم لكنه غير كاف فى محاربة التطرف: ليس من الإنصاف، ولا العلم، ولا الحكمة تحميل التعليم وحده مسؤولية التطرف الدينى الذى ينزلق إلى الإرهاب، ولا ينبغى المبالغة فى تحميل المدرسة عبء المهمة بمجملها. فالميول المتطرفة ليست نتاج عامل واحد، وعلاجها ليس سهلا كى يلقى عبئه على طرف واحد. فتشكيل الذهن الجمعى، أو الثقافة العامة، يتأثر بعوامل كثيرة، بعضها ثقافى بالمعنى الخاص مثل التعليم والإعلام والتربية الدينية، وبعضها بعيد تمامًا عن هذا الإطار، كالاقتصاد والسياسة والتقاليد الاجتماعية والموقع الطبقى وغيرها، ويجب أن يؤخذ هذا فى الحسبان عبر النظرة الشاملة إلى أسباب التطرف وسياقاته، أو حتى فى النظرة الجزئية التى تعالج ما يخص التعليم من الأسباب أو طرق المواجهة والعلاج، حتى نحدد النسبة، التى على مناهج التعليم ووسائله المساهمة بها فى عملية التصدى للإرهاب، بوصفه مسألة معقدة لها أبعادها الثقافية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية. لكن من الضرورى فى هذا المقام أن نلاحظ أنه رغم عدم وجود علاقة مباشرة بين التعليم والتطرف والإرهاب، فإن نظام التعليم يؤثر تأثيرا مباشرا ضمن عوامل أخرى على استعداد الفرد لتقبل أفكار وعقائد متطرفة، على الوجه الآخر فإن إلغاء بعض الدروس التى يتوصل واضعو المناهج التعليمية إلى أنها تغذى التطرف الدينى قد يكون خطوة إيجابية، لكنها غير كافية وأحيانا تكون متسرعة. ولذا فإن علينا ألا نكتفى بما يؤدى إلى الامتناع عن تعليم التطرّف، بل يجب فى المقابل تعليم التسامح، والتأكيد على مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان.
2 ـ زيادة الجرعة الدينية أم العلمية؟: هناك من يطرح تعديلا لمناهج التربية الدينية، بحيث يقوم على وضعها معتدلون، فيأتون بنصوص وروايات وتفسيرات وتأويلات واستشهادات ومواقف وحكايات يعززون بها هذا التوجه. لكن الخبرة تبين، حسب قول أحمد عبد ربه، أن «الانطلاق من ثنائيات الخير والشر لمواجهة الحركات الجهادية العنيفة لا تفعل أكثر من تثبيت أركان هذا العنف. فالحركات الجهادية مبنية على دعائم فكرية متجذرة ومنتسبة إلى الإسلام وتراثه الطويل. وبالتالى فإن الجهادى العنيف هو شخص لديه عقيدة راسخة ومتجذرة ولن يفيد أبدا نعته بأى أوصاف لإيقافه أو حتى لمنع آخرين من الانضمام إليه، كذلك فإن الردود الدينية على الجهاديين أثبتت عدم فاعليتها». ولا يعود رفض المتطرفين لهذه الردود إلى صدورها عن مؤسسات يرى هؤلاء أنها تابعة للسلطة فحسب، بل لأن ما تطرحه هذه المؤسسات يبقى مجرد تأويل دينى مغاير أو مختلف، لكن يقدم برهانه من خلال التصور الدينى أيضا، علاوة على ما يعانى منه المتطرفون من الافتقار إلى منهج التفكير السليم، وإيمانهم بقواعد يفهمونها على نحو يخدم مصالحهم ويعتقدون فى صوابها المطلق مثل «شمولية الإسلام» وضرورة «العودة إلى الله» ووجود «مؤامرة على الإسلام».
هنا من الواجب إعادة النظر فى التوجه الذى يرى أن علاج التطرف يتم من خلال التعليم الدينى الذى يطرح أفكارا منها «تصحيح المفاهيم» و«مراجعة الأفكار»، بل نحن فى حاجة ماسة إلى زيادة جرعة التفكير العلمى فى المجال العام. فتربية عقول قادرة على المساءلة والنقد والإبداع هى الوسيلة الأنجع لقطع الطريق على المتطرفين من بث أفكارهم السلبية فى المجتمع.
3 ـ غرس الاعتدال أم خلع التطرف؟: إذ يبدو أن الأكثر إلحاحا الآن، وحتى قبل هذا ومنذ بداية المشكلة، هو منع التطرف وليس تحقيق الاعتدال، فكما يقول زكى نجيب محمود: ليس ما يؤخذ على المتطرف أنه قد اختار لنفسه وجهة نظر يرى الأفكار والمواقف من خلالها: لا، فهذه على العكس، علامة نضج، وكذلك ليس ما يؤخذ عليه أنه يحاول إقناع الآخرين بمشاركته فى وجهة نظره، لأن تلك المحاولة منه إنما هى علامة إيمان بصدق ما رأى. لكن الذى يؤخذ عليه حقا هو إرهابه للآخرين لإرغامهم على قبول ما يدعو إليه هو وزمرته، ففى ذلك الإرهاب جوهر التطرف، ومن ثم فالواجب الأولى والأساسى هو منع المتطرفين من فرض إرادتهم على البقية قبل أن نحدث المتطرفين عن ضرورة أن يعتدلوا. كما أن علينا أن نجيب على سؤال مهم فى هذا الناحية هو: هل المطلوب هو إقناع المتطرفين بجدوى الاعتدال أم حماية المجتمع من التطرف؟.
4 ـ التعليم لا ينفصل عن الثقافة: فالنظر إلى علاقة التعليم بالتطرف الدينى يؤدى على الفور، وفق تفكير سليم وحصيف، إلى أخذ الثقافة فى الاعتبار، فالثقافة تتعدى أن تكون مجرد مجموعة السمات والقيم المعنوية والمادية والفكرية والعاطفية والعادات والمعتقدات التى تميز مجتمعا ما إلى كونها ما ينتجه البشر وليس ما يرثونه، وهذا الإنتاج يشكل التعليم جزءا أساسيا فيه، وكذلك كل ما يتعلق بتعزيز القيم الإيجابية. على الوجه الثانى من الضرورى أن يأخذ القائمون على التعليم المسائل الثقافية فى الاعتبار، وأن يكون لهم رأى فى وضع السياسات الثقافية. ومن أسف فإن سياساتنا الثقافية، وفق ما جاء فى كتاب: «مدخل إلى السياسات الثقافية فى العالم العربى» تعانى من عدة مشكلات منها: أنها سياسة نظرية لا تتم ترجمتها إلى خطة متكاملة، وتبقى فى حدود طريق تُعتمد أو توجه يتم السير وفقه أو معاهدة توقع، ولا تنتقل إلى مجموعة قواعد وقوانين وخطط تقرها رسميا السلطات من أجل تغيير وتطوير بعيدى المدى، كما أنها تضع الثقافة فى خدمة السياسة، وليس العكس، حيث تم توظيف الثقافة فى خدمة توجهات القومية العربية، والهوية الوطنية، والهوية الإسلامية، وثقافة المقاومة، وثقافة الحزب الحاكم، والثقافة الرسمية المركزية. وبذا يصبح المطلوب هو جعل الثقافة فى قلب التعليم، من خلال تضافر الجهود بين المؤسسات القائمة على المجالين.
5 ـ المناهج أم طرق التدريس؟: فالاكتفاء بتطوير المناهج ليس عملا حصيفا، إنما من الضرورى النظر فى تطوير طرق التدريس أيضا، فالشكل يؤثر فى المضمون، وهو قد يشوهه أو يبتره أو يضعف من فاعليته. ولهذا حرصت اليونسكو فى دليلها للمعملين لمنع التطرف العنيف على أن تفرد جزءا لوسائل التدريس جنبا إلى جنب مع مضمونها، بل إنها تطرقت إلى جوانب تفصيلية من خلال توضيح طريقة إدارة المناقشة فى قاعات الدرس، عبر وضع الأهداف للتعلم ومنها تعميق المعرفة، وتوفير الاحتياجات الاجتماعية والعاطفية والتدابير السلوكية، والتحضير المتقن للدروس، وفتح باب المناقشة والحوار مع الطلاب وفق قيم محددة هى: التضامن، واحترام التنوع، وصيانة حقوق الإنسان، وتعلم العيش المشترك.
ومن أسف فإن طرق التدريس لم تشهد تطويرا كبيرا فى العالم بأسره، وهنا يقول نيكولاس نيجروبونت، الأستاذ الأمريكى المنشغل برقمنة التعليم: «إذا نظرنا إلى الكيفية التى نتعامل بها مع التعليم فى كل أنحاء العالم، مقارنة بجوانب أخرى مثل الطب وقطاع المصارف، وإذا أمعنا النظر فى نموذج الطب، فلنفترض أننا قد أخذنا آلة الزمن، وأعدنا عقارب الساعة مائة عام إلى الوراء، وأخذنا طبيبا جراحا، ثم وضعناه فى غرفة عمليات حديثة، فإن ذلك الطبيب لن يتعرف على أى شىء فيها باستثناء جسم الإنسان الذى ستجرى له الجراحة، وستكون المعدات الجراحية بالنسبة إليه شيئا مجهولا تماما. وفى المقابل إذا أخذنا معلما من فصل مدرسى قبل مائة عام، ووضعناه فى أحد الصفوف المدرسية المعاصرة فإنه يمكن أن يكون بديلا يحل محل المدرس المعاصر، إذا لم يتغير شىء مقارنة بما كان سائدا من قبل فيما يتعلق المدارس». وآن الأوان لابتكار طرق جديدة للتدريس، على أن يكون أحد الأهداف الأساسية لهذا التغيير أو التطوير هو مواجهة العقول المغلقة والجامدة والمتطرفة، التى تتمكن الجماعات المتطرفة والإرهابية من استقطابها بسهولة ويسر.