الأزمة المالية

تصيب الأزمة المالية مفاصل الحياة كافة في الدولة، والتي بدأت تتهاوى كالدومينو قطاعًا تلو الآخر. أمّا وقد وصلت الأزمة الى الضمان الاجتماعي المهدّد بالتوقف عن تقديم خدماته نهاية العام، فهذا يعني انّ الانهيار الكبير بات على الابواب، خصوصًا أنّ خدمات الضمان تُطاول ثلث الشعب اللبناني الذي قد لا يتمكّن في القريب من الحصول على خدمة الطبابة والاستشفاء.

مخاطر جدية تحوم اليوم حول صندوق المرض والأمومة التابع للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والذي يقدم خدمات استشفائية لما يزيد عن مليون ونصف المليون لبناني. مدير عام الضمان الاجتماعي حذّر مؤخرًا، في تصريح، من توقّف خدمات الضمان الصحي وتقديماته اعتبارًا من مطلع العام المقبل في حال لم تُقدِم الدولة على سَداد ديونها المتراكمة، والتي تجاوزت الـ 4500 مليار ل.ل. مع نهاية العام 2020”.

لِمثل هذا القرار (توقُّف الخدمات الصحية)، اذا اتُّخِذ، تداعيات كارثية اجتماعية وصحية كبرى على البلاد، لأنها تعني أنّ ثلث الشعب اللبناني تقريبًا سيصبح من دون تغطية صحية اعتبارًا من مطلع العام 2021. وإذا أضفنا الى هذه الكارثة الخطوة المتوقّع ان يتخذها المصرف المركزي مطلع العام أيضًا بِرَفع الدعم عن المستلزمات الطبية والأدوية، عندها يمكن القول إنها فاجعة جديدة ستحلّ على اللبناني الذي لن يتمكن في الأمد القريب من الحصول على خدمات الاستشفاء والطبابة.

وقد سبق للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أن أحالَ الى وزراء العمل كتبًا عدة من الأعوام 2013 ولغاية 2020، وأكثر من مراسلة يطلب فيها من الدولة اللبنانية دفع المتوجبات التي في ذمّتها لصندوق الضمان من حيث مساهمتها في فرع ضمان المرض والأمومة (25% من قيمة التقديمات الصحية) الى جانب بقية الاشتراكات في ما خَصّ الضمان الاختياري وفرع نهاية الخدمة... حتى بات مجمل المبالغ المتوجّب على الدولة تسديدها لغاية العام 2020 حوالى 3947 مليار ليرة، وهو عبارة عن مجموع الديون المتراكمة لغاية نهاية العام 2018 بقيمة 3236 مليار ليرة بالإضافة الى الاعتمادات المرصودة في موازنات العام 2019 بقيمة 345 مليارًا و679 مليون ليرة وفي العام 2020 بقيمة 361 مليارًا و778 مليون ليرة. ولغاية نهاية العام 2020 لم تسدد الدولة من هذه المتوجبات سوى مبلغ 50 مليار ليرة من اصل 4500 مليار، ما يجعل الضمان، خصوصًا فرع ضمان المرض والأمومة، في موقع حرج.

وتشير الأرقام الى انّ هذا الفرع استدانَ من فرع نهاية الخدمة لغاية 30 حزيران 2020 حوالى 2.427.302 مليار ليرة، يُضاف إليها رصيد السُلَف التي دفعت للمستشفيات بقيمة 1.846 مليار ليرة.

كل هذا الإهمال يسلّط الضوء على تقصير الدولة التي، بتخَلّفها عن دفع موجباتها للضمان، ارتَضَت ان تخالف القوانين، وهي نفسها لم تعيّن أعضاء لمجلس إدارة الضمان المنتهية ولايته منذ سنوات، كما تخلّفت عن ملء الشغور لـ 9 من أعضائها، ولم تعيّن أحدًا في اللجنة الفنية بعد مغادرة 2 من أعضائها، كما انها لم تعيّن بديلًا من اللجنة المالية (المسؤولة عن تنظيم تعويضات نهاية الخدمة والضمان) منذ العام 2012

مصادر في الضمان

في هذا السياق، اعتبرت مصادر في مجلس إدارة الضمان “انّ من واجبات وزارة المال اليوم ان تقوم بدفع ما يتوجّب عليها الى الصندوق، أي نسبة الـ25% من كلفة فرع المرض والأمومة، كما سبق للدولة أن وافقت وأصدرت قوانين ومراسيم تؤكد فيها مساهمتها في اشتراكات السائقين العموميين والمخاتير، كذلك وافقت على ضَم إجراء الدولة والمياومين (أي غير المُثبّتين) الى الضمان، لكنها وبعد ان ضَمّت كل هؤلاء الى الضمان تتخلّف منذ 6 سنوات عن دفع موجباتها تجاههم، حتى تجاوزت ديون الدولة للضمان الـ 4000 مليار ليرة.

وحَمّلت المصادر مدير عام الضمان مسؤولية ما وصلت اليه الأوضاع في الصندوق لأنه لم يضغط خلال السنوات الماضية على وزارة المالية لتيسير شؤون الضمان، مع العلم أنهما من الخط السياسي نفسه.

ولفتت المصادر الى انّ هذا العجز كان يُغطّى من فوائِض نهاية الخدمة المتأتية من طَفرة الفوائد والتوظيفات في المصارف، لكن بعدما وصلت الاستعانة بفوائِض نهاية الخدمة الى الخط الأحمر، وبعدما بات من المستحيل تَحمّل مسؤولية الاستعانة بالتعويضات، أطلقَ كركي النفير، لأنّ تعويض نهاية الخدمة، المتراكِم عبر السنوات، هو حساب شخصي للمضمون، لذا لا يحق لأحد أن يمد يده إليه.

وردًا على سؤال، قالت المصادر: صحيح انّ الضمان ليس في أفضل احواله إنما لا يمكن السماح بانهياره، فهذه كارثة لا بل فاجعة تعني انهيار البلد، إذ مع كل مخلّفات انفجار مرفأ بيروت، الذي وُصِف بالكارثة الوطنية وخَلخَل أسس البلد، سيكون انهيار الضمان أقسى بكثير لأنه يقدم العناية الصحية والطبية في بلد مفلس وفقير لمليون و600 الف مواطن، أي ثلث الشعب اللبناني، وانهياره يعني كارثة وطنية.

علوية

من جهته، يشرح عضو المجلس الاقتصادي الاجتماعي صادق علوية ان التعثّر في فرع الامومة ليس وَليد اليوم، فالتكاليف لا تزال نفسها إنما ما حصل هو تراجع الواردات بعد توقّف الدولة الى جانب عدد كبير من أصحاب العمل عن تسديد موجباتهم الى الضمان. لذلك، اذا استمر هذا المنحى فإنّ الصندوق سيتوقف عن تقديم الخدمات الاستشفائية نهاية العام.

واعتبر انه امام العجز الحاصل هناك خياران: إمّا رفع بدل الاشتراك، وهذا غير وارد في ظل الظروف الصعبة، وإمّا ان تدفع الدولة دَفعة طارئة. وما يُطالِب به كركي اليوم ان تقدم الدولة على تسديد ديونها او حتى جزء منها.

وأوضح، ردًا على سؤال، ان لا أموال البَتّة اليوم في صندوق المرض والأمومة، وتغطية العجز تأتي من فوائض صندوق نهاية الخدمة، لكن المتابعة في هذا النهج لم تعد ممكنة لأنه جَرت العادة أن تسدّد الدولة المبالغ التي يستعملها الضمان من الفائض، والمقدّرة بحوالى 200 مليار ليرة الى 300، إلّا أنه بعد مرور حوالى 5 سنوات على تخلّف الدولة عن الدفع ارتفعَ العجز بشكل كبير، بحيث بات لِزامًا اتخاذ قرار في هذا الخصوص. فهل يجوز الاستمرار بالاستدانه وبمبالغ أكبر من تلك التي استدانها الضمان العام الماضي؟

وردًا على سؤال، أشار علوية الى انه اذا طُلب من المركزي أن يسدد العجز، والمقدّر بـ 4500 مليار ليرة، فجُلّ ما سيفعله هو التحويل ورقيًّا من حساب الى آخر، لأنّ الضمان لا يطلب “كاش” من المضمونين، لذا يجب الإسراع بإيجاد حل لهذه المشكلة والّا فالناس ستموت على أبواب المستشفيات.

العمّالي

تجاه هذه الأزمة التي تطاول العمّال بالدرجة الأولى، هل من تحرّك للاتحاد العمّالي العام لحماية صمود هذا المرفق؟ يقول رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر: لأنّ الاتحاد هو خط الدفاع الأول عن الضمان، فإنه يعدّ لتحرّك كبير دفاعًا عن حوالى 500 ألف عامل يستفيدون من تقديماته. وأضاف: بالتشاور مع كركي وكل المعنيين بالشأن الصحي، نحن نعدّ لتحرّك على الأرض باتجاه كل المسؤولين بهدف الضغط لكي تسدّد الدولة موجباتها للضمان الذي يعني ثلث الشعب اللبناني.

واعتبر الأسمر انّ الكارثة الكبرى تتمثّل برفع الدعم المتوقع في الفترة المقبلة، والذي سيؤدي الى رفع فاتورة الضمان 3 مرات عمّا هي عليه اليوم. عندها، لن يملك الضمان الطاقة على تحمّل هذه التكاليف.

وعن مسبّبات هذه الأزمة اليوم، قال: انّ قرارات تمديد المهل التي صدرت 3 مرات هذا العام أدّت الى تخلّف أصحاب العمل عن دفع الاشتراكات للضمان، عَدا عن إعلان بعض الشركات إفلاسها ومرور البعض الآخر بأوضاع اقتصادية صعبة، ما أدى الى تراجع مداخيل الضمان.

واعتبر انّ هناك سلسلة من التآكل المالي انعكست سلبًا على تقديمات الضمان.