معالم طرابلس الأثرية

إلتقيت برامي في العام 2013. كنت في طريقي إلى مقهى "التل العليا"، ولمن لا يعرفه فقد فاته زيارة واحد من أشهر وأجمل معالم طرابلس الأثرية. فالمقهى تراثي قديم، بنته الدولة العثمانية في العام 1870 في القرن التاسع عشر ليكون ملتقى كبار القادة والعائلات، وهو لا يزال إلى اليوم متنفسًا محوريًا لأبناء المدينة. لمحته عن بُعد يستعرض الكتب على درج التلّ المؤدي إلى المقهى. يمسك عددًا من الكتب بين يديه ويتأبّط عددًا آخر.

ينظر رامي إلى العناوين التي فرشها أرضًا، ثم يلتفت نحو تلك التي بين يديه. يحاول التنسيق في ما بينها، وتنويع المحتوى الذي يعرضه. كان حضوره على الدرج ملفتًا للانتباه، إذ كان زيّه يوحي بأنه عازف بيانو أكثر مما هو مناسب لبائع كتب. كان نحيلًا، قصير القامة بشعر مجعّد كثيف. يرتدي بنطلون "جينز" بلون غامق، وقميصًا أبيض أزراره مبكلة حتى العنق، فوقه معطف أسود اللون بقبة عريضة طويل حتى الساقين. لحظة اقترابي منه أشاح نظره بعيدًا وانهمك أكثر بتنسيق كتبه. استأذنته سائلة عن أحد العناوين، فأجابني من دون أن ينظر إلي. كان يحاول التهرب دومًا من الدخول في حوارات مع الناس.

مبيعات الكتب صارت ديليفري

لم يكن رامي بائع كتب عاديًا. بل كان فارًا، أو هكذا أَحب أن يصف نفسه. فارًا من الحرب في بلده، ومن الملاحقة العسكرية والقانونية في بلد اللجوء، ومن الأسئلة عن مصير عائلته المشتتة وأصدقائه، ومن الخجل لخيانة حب، ومن نظرات الغرباء المتطفلة، ومن أحلام باتت مستحيلة، ومن غدٍ بدون مستقبل. رامي ذلك الشاب السوري الذي فرّ من ويل الحرب ودخل إلى لبنان بطريقة غير شرعية، لم يجد عملًا أنسبَ من أن يكون بائع كتب على درج التلّ في طرابلس. كان طالب الفلسفة في جامعة دمشق عاشقًا للكتب والقراءة.

بعد أشهر من التردد إلى المكان، زوّدني رامي بما كان ينقصني من كتب لاستكمال مجموعة أعمال روائيتي المفضلة، غادة السمّان. اتفقنا أخيرًا، بعد أن بادلني جزءًا من الثقة وبدد خوفه المستميت من الغرباء، أن يؤمن لي كتب الروائي المصري توفيق الحكيم، على أن آتي في الأسبوع المقبل في نفس اليوم والتوقيت.

أحد أهم أساليب التسلية خلال فترة الحجْر

مرّت ساعة وأنا أقف بالقرب من "بسطة الأغاني" التي تركن على يمين الرصيف أمام درج التلّ. يبيع صاحبها الألبومات الغنائية الجديدة والقديمة "لأشهر" الفنانين العرب والأجانب على أقراص مدمجة. تصدح منها الحناجر طيلة النهار بما هبّ ودبّ من كلمات وأنغام. لطالما كان رامي يقذف النكات على ما يسمعه الناس من موسيقى "قذرة" على حدّ توصيفه. كان شابًا سليط اللسان بالرغم من قلّة كلامه. وعلى عكس النكات، كان سيل من الشتائم يتطاير من فمه عندما يرى إقبال الجموع على شراء الألبومات الغنائية من جاره مقابل إحجامهم عن شراء الكتب منه.

مرّت ساعة أخرى وقد نفد صبري فتركت المكان وعدت أدراجي خالية. ومنذ حينه لم أرَ رامي ولم أسمع منه أو عنه أي شيء. أستذكره اليوم بعدما أكد عدد من العاملين في مجال بيع الكتب تحقيق ارتفاع ولو طفيف في نسب المبيع نتيجة التزام الناس بيوتهم في ظل الحجر المنزلي. وبحسب أحد العاملين في مكتبة "Bookpost" فإن "عدد طلبات الكتب ازدادت في الشهرين الماضيين ولا سيما كتب الأطفال، خصوصًا بعدما وفرنا خدمة الديلفيري"، مشيرًا إلى أن "أمهات كثيرات وجدن في الكتب وتوابعها من الـ Bandes dessinées سبيلًا لتسلية الصغار وطريقًا لقضاء ساعات الحجر الطويلة".

أما عن أنواع الكتب الأخرى، فأشار إلى أنه "لا تزال الروايات في صدارة الكتب التي يطلبها الناس، بالإضافة إلى بعض الكتب التاريخية والسياسية".

أفلام عربية للبيع

من جهته، يؤكد صاحب مشروع "Bookpost" هادي بكداش أنه "كان من المفترض أن يرتفع مبيع الكتب في هذه الفترة أكثر لو أن لبنان لا يُعاني من مشاكل اقتصادية ضاغطة وأزمة معيشية خانقة"، مشيرًا إلى أنه "إلى جانب تراجع قدرات الناس الشرائية التي ستزداد حدّة في الأشهر القادمة، فإن أزمة الدولار وارتفاع أسعاره مقابل سعر صرف الليرة قيّدت قدرتنا على الاستيراد. وأخيرًا، أضيفَ إلى كل ما سبق أزمة جائحة كورونا التي عطّلت معظم المرافق الحيوية وباتت عمليات الاستيراد من الخارج شبه متوقفة".

ويوضح بكداش أن "الاعتماد على دور النشر المحلية وشراء الكتب منها ليس حلًا، بل على العكس هو مشكلة بحد ذاته لأنه كشف جشع العديد من أصحاب الدور، الذين هبّوا لاستغلال الأزمة الاقتصادية ورفعوا أسعار الكتب بشكل جنوني، بالرغم من أنهم كانوا يعرضونها في رفوف مكتباتهم منذ سنوات، أي أنهم أصدروها بكلفة أقل من سعرها اليوم بكثير"، مؤكدًا أن "جزءًا آخر من دور النشر يشتري كل ما يحتاجه لإصدار الكتب بالدولار الأميركي، وارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية يؤدي إلى تراكم خسائر هؤلاء مما يدفعهم أيضًا إلى رفع أسعار الكتب".

المكتبات في الحجر أيضًا

ويكشف بكداش في حديث مع "نداء الوطن" أن واحدة من أكثر المشاكل التي يعاني منها هذا القطاع تتمثل باحتكار بعض التجار لعمليات استيراد ورق الطباعة، مشيرًا إلى أن "من يملك ورق الطباعة هو من يتحكم بالسوق، وقد وصلت أسعار الورق إلى مستويات غير مسبوقة". مبيع الأفلام أيضًا ارتفع في هذه الفترة، فمن لا تزال التطبيقات الإلكترونية الحديثة مثل "نيتفلكس" بعيدة من متناول يديه، وجد المجال أمامه مفتوحًا لقضاء الوقت والتسلية بشراء الأفلام من المحال المخصصة لبيعها. وبحسب صاحب محل "ليبانون دي في دي ستور" فقد "زاد مبيع الأفلام بشكل ملحوظ إذ تخطى الـ30 في المئة في الأشهر الفائتة، وقد تركز طلب الناس على الأفلام والمسلسلات التركية".

بدوره أكد صاحب محل "بيست" أنه "مع توافر خدمة الديلفيري ازداد عدد الطلبات على شراء الأفلام، لكن الأسعار لم تعد كالسابق ما أدى إلى تذمر بعض الناس"، مؤكدًا أن "غالبية الطلبات تركزت في الفترة الأخيرة على الأفلام التي تحدثت عن انتشار فيروس في العالم، والأفلام التركية".

قد يهمك ايضا:تعرف على الكتب الأعلى مبيعا في معرض القاهرة الدولي للكتاب