الأيدي النظيفة تحرك فرنسا سياسياً

الأيدي النظيفة تحرك فرنسا سياسياً

الأيدي النظيفة تحرك فرنسا سياسياً

 لبنان اليوم -

الأيدي النظيفة تحرك فرنسا سياسياً

جبريل العبيدي
بقلم : د جبريل العبيدي

اهتزت فرنسا يوم الاثنين الماضي، عندما أصدرت محكمة الجنح في باريس، حكماً يقضي بسجن مارين لوبان زعيمة حزب «التجمع الوطني» اليميني الفرنسي المتشدد، أربع سنوات بتهمة الفساد، ومنعها من الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة. كانت صدمة لوبان من دون حدود، فقد رفعت استطلاعات الرأي الأخيرة، نسبة أملها في الوصول إلى قصر الإليزيه إلى 37 في المائة. ما ردود الفعل المنتظرة سياسياً وشعبياً، بعد الذي فعلته مطرقة القانون بشخصية سياسية ورثت زعامة حزبها اليميني المتشدد عن والدها الراحل؟ لوبان شخصية سياسية يمينية متشددة، لها امتداد من المؤيدين في أوروبا وأميركا، وسيكون لخروجها من المشهد السياسي في بلادها، أصداء أوروبية بل وعالمية. تابعتُ مجريات الحدث سياسياً وإعلامياً، وقادني ما حدث إلى مراجعة كتاب «زمن الأيدي النظيفة»، لمؤلفه الإيطالي غفريدو بوتشيني. أورد فيه تفاصيل ما شهدته إيطاليا سنة 1992، وقاد إلى زلزال سياسي عنيف واسع، فكك المنظومة السياسية الحزبية القديمة، التي حكمت إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية مدة استمرت أربعة عقود.

في مطلع سنة 1992 رفع القاضي الإيطالي أنطونيو دي بييترو مطرقة القانون، وهوى بها على زمن سياسي تراكم وتصلّب كخرسانة على دنيا السياسة والمال والإدارة في كل أنحاء البلاد الإيطالية. بدأ القاضي دي بييترو حربه، عندما ضبط أحد قادة الحزب الاشتراكي، يتسلم مبلغاً مالياً من رجل عجوز، مقابل إدخاله إلى مأوى العجزة. كانت تلك الحادثة الثقب الصغير، الذي وقف أمامه القاضي الشجاع العنيد طويلاً، حتى حوله إلى بوابة واسعة، عبرها إلى عالم من الفساد الرهيب. منظومة من الفساد، الممتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بما في ذلك من المؤسسات الإدارية والمالية والعسكرية والبوليسية. كانت الحادثة البسيطة، بمثابة عود الكبريت الذي أشعل نار القانون، وأحرق زمناً إيطالياً طويلاً. السياسي المرتشي كشف عن وثائق ورطت قادته السياسيين في قضايا فساد أكبر وأخطر. تطوع عدد كبير من القضاة لمساعدة القاضي دي بييترو، واتسعت دائرة الملاحقة القانونية، حتى شملت خمسة آلاف من المتهمين السياسيين ورجال الأعمال والمافيات والجيش والبوليس والإداريين، في جميع أنحاء إيطاليا. صار القاضي دي بييترو قائداً وطنياً لمعركة واسعة مع منظومة فساد تحكم وتتحكم في مفاصل الدولة. أحزاب تجمع أموالاً هائلة عبر الرشوة والعمولات لتمويل معاركها الانتخابية. شنت الأحزاب حملة شخصية واسعة ضد القاضي دي بييترو، وقالت إنه يخدم أهدافاً لقوى متآمرة على إيطاليا، وإنه يتعاطى المخدرات، لكن التأييد الشعبي له ارتفع واتسع عندما اغتيل أحد مساعديه. بدأت الأحكام تصدر في حق عدد كبير من المتهمين السياسيين ورجال الأعمال وغيرهم. بدأت أطراف سياسية تدلي بمعلومات ضد بعضها. دخلت المعركة جولة الحسم، عندما صدر حكم ضد بتينو كراكسي، زعيم الحزب الاشتراكي ورئيس الوزراء السابق، بالسجن مدة 27 سنة، مما اضطره للهروب إلى تونس، حيث أمضى بقية حياته، ودُفن بعد موته في منطقة الحمامات التونسية. بدأت الطبقة السياسية والإدارية والمالية تتفسخ، ولاحت نهايات زمن فسد وتآكل. مطرقة القانون التي رفعها قاضٍ شجاع، حطمت خرسانة الفساد الصلبة، وتجمعت بقاياها المتكسرة في الزنزانات. المعركة التي أطلق عليها الأيدي النظيفة دفنت زمناً طويلاً، وألقت أحزاباً كبيرة في المقدمة منها الحزبان السياسيان الديمقراطي والاشتراكي في حفرة العدم. حاولت بعض القوى القديمة قفل ملف الأيدي النظيفة، عندما تولى رجل الأعمال والإعلام سيلفيو برلسكوني رئاسة الحكومة، لكن القضاة ثاروا ضده، مما دفعه إلى التراجع، وظلّ الملفُ مفتوحاً يفعل فعله حتى طال برلسكوني ذاته. أثبت القانون أنه قوة ضاربة، قوة قادت انقلاباً سياسياً غسل مرحلة طويلة لوثها الفساد، وقادت البلاد إلى عصر جديد.

كنتُ شاهد عيان على تلك الحرب القانونية الضروس وأنا سفير ليبيا لدى إيطاليا. لقد انشغلنا بذلك التحول الكبير بحكم العلاقة التي ربطت الدولتين. كنتُ المسؤول الليبي الأول الذي قابل سيلفيو برلسكوني بعد توليه رئاسة الوزارة. أسهب في الحديث عما حدث في إيطاليا بعد زلزال الأيدي النظيفة، الذي تآمر فيه القضاة على كيان الدولة، حسب وجهة نظره، وأكد حرصه على الحفاظ على علاقة الصداقة والتعاون مع ليبيا. وبالفعل فقد شهدت العلاقات الليبية في فترة حكمه قفزة كبيرة.

الحكم الذي صدر في اليومين الماضيين بفرنسا ضد مارين لوبان، زعيمة حزب «التجمع الوطني» اليميني المتشدد، ربما يكون كرة الثلج المتدحرجة في السهل السياسي الفرنسي، ويطلق هذا الحكم زلزال الأيدي النظيفة في فرنسا، كما حدث في إيطاليا. القانون هو قوة حماية كيان الدولة، ووقود فاعلية المجتمع المدني. اليمين الفرنسي شكّل في السنوات الأخيرة قوة سياسية فازت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وكان له أمل كبير في الوصول إلى الرئاسة، لكن القانون له إشارات مرور حاكمة. ردود الأفعال الشعبية لن تغير أحكام القضاء، لكنها تصنع مزاجاً سياسياً له فعله.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأيدي النظيفة تحرك فرنسا سياسياً الأيدي النظيفة تحرك فرنسا سياسياً



GMT 14:55 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

بدعة النزاهة

GMT 12:21 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

نريد نتائج لا تنظيرًا

GMT 12:20 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مرشحو الرحيل

GMT 12:19 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مادورو على توقيت ترمب

GMT 12:18 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

القزويني والمياه الرقمية المُلوّثة

GMT 12:17 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

GMT 12:15 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

النشاز الإسرائيلي في الدبلوماسية الأميركية

GMT 12:14 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الإلغاء لا يحل مشكلة القوائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 09:49 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 13:56 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

تستفيد ماديّاً واجتماعيّاً من بعض التطوّرات

GMT 13:06 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 12:08 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

شؤونك المالية والمادية تسير بشكل حسن

GMT 12:37 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

ابرز الأحداث اليوميّة

GMT 15:17 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

يحمل هذا اليوم آفاقاً واسعة من الحب والأزدهار

GMT 16:49 2021 الإثنين ,15 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 11:57 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

لا تكن لجوجاً في بعض الأمور

GMT 14:59 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

عليك أن تتجنب الأنانية في التعامل مع الآخرين

GMT 15:32 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:53 2018 الجمعة ,21 كانون الأول / ديسمبر

سعد الحريري يتوقع تشكيل حكومته الجديدة مساء الجمعة

GMT 10:29 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

الشمبانزي قادرة على تقييم المخاطر وتحذير أقرانها

GMT 20:51 2019 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

طائرة الجزائر يواجه الكاميرون في الالعاب الأوليمبية 2020
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon